إن في هذا الشهر المبارك نصر الله المسلمين في غزوة بدر الكبرى على أعدائهم المشركين وسمي ذلك يوم الفرقان ، لأنه سبحانه فرق بين الحق والباطل بنصر رسوله والمؤمنين وخذل الكفار المشركين ، كان ذلك في شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرى .
وكان سبب هذه الغزوة أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أبا سفيان قد توجه من الشام إلى مكة بعير قريش ، فدعا أصحابه إلى الخروج إليه لأخذ العير ، لأن قريشاً حرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ليس بينه وبينهم عهد وقد أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وقاموا ضد دعوتهم دعوة الحق فكانوا مستحقين لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعيرهم .
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ثلاث مئة وبضعة عشر رجلا على فرسين وسبعين بعيراً يتعقبونها ، منهم سبعون رجلا من المهاجرين ، والباقون من الأنصار يقصدون العير لا يريدون الحرب ، ولكن الله جمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ليقضي الله أمراً كان مفعولا ، ويتم ما أراد ، فإن أبا سفيان علم بهم فبعث صارخاً إلى قريش يستنجدهم ليحموا عيرهم وترك الطريق المعتادة وسلك ساحل البحر فنجا.
أما قريش فلما جاءهم الصارخ خرجوا بأشرافهم عن بكرة أبيهم نحو ألف رجل معهم مئة فرس وسبع مئة بعير ومعهم القيان يغنين بهجاء المسلمين فلما علم أبو سفيان بخروجهم بعث إليهم يخبرهم بنجاته ويشير عليهم بالرجوع وعدم الحرب ، فأبوا ذلك وقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نبلغ بدراً ونقيم فيها ثلاثاً ننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما علم بخروج قريش جمع من معه من الصحابة فاستشارهم وقال : (( إن الله قد وعدني إحدى الطائفتين إما العير أو الجيش )) فقام المقداد بن الأسود وكان من المهاجرين وقال يارسول الله امض لما أمرك الله عز وجل فوالله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام "فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)" ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك وقام سعد بن معاذ الأنصاري سيد الأوس فقال يا رسول الله لعلك تخشى أن تكون من الأنصار ترى حقا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم : فاطعن حيث شئت ، وصل حبل من شئت واقطع حبل من شئت وخذ من أموالها ما شئت ، وأعطنا منها ما شئت ، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت ، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا فيه تبع لأمرك ، فوالله لئن سرت بنا حتى نبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك ، ولئن استعرضت بنا هذا البحر لخضته لنخوضنه معك ، وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غدا وإننا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع من كلام المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وقال : (( سيروا وأبشروا فوالله لكأني أنظر إلى مصارع القوم )) فسار النبي صلى الله عليه وسلم بجنود الرحمن حتى نزلوا أدنى ماء من مياه بدر فقال له الحباب بن المنذر يارسول الله أرأيت هذا المنزل ؟ أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر ؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( بل هو الرأي والحرب والمكيدة )) فقال : يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضاً فنملأه فنشرب ولا يشربون فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرأي ونهض .
فنزل بالعدوة الدنيا مما يلي المدينة وقريش بالعدوة القصوى مما يلي مكة ، وأنزل الله تلك الليلة مطرا كان على المشركين وابلاً شديداً ووحلا زلقا يمنعهم من التقدم وكان على المسلمين طلا طهرهم ووطاً لهم الأرض وشد الرمل ومهم المنزل وثبت الأقدام .
وبنى المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً على تل مشرف على ميدان الحرب ثم نزل صلى الله عليه وسلم من العريش فسوى صفوف أصحابه ومشى من موضع المعركة وجعل يشير بيده إلى مصارع المشركين ومحلات قتلهم يقول ها هنا : (( هذا مصرع فلان إن شاء الله هذا مصرع فلان )) فما جاوز أحد منهم موضع إشارته ثم نظر إلى أصحابه وإلى قريش فقال : (( اللهم هذه قريش جاءت بفخرها وخيلائها وخيلها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم نصرك الذي وعدتني ، اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد )). واستنصر المسلمون ربهم واستغاثوه فاستجاب لهم " يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)" ثم تقابل الجمعان وحمي الوطيس واستدارت رحى الحرب ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ومعه أبوبكر وسعد بن معاذ يحرسانه فما زال صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ويستنصره ويستغيثه فأغفى إغفاءة ثم خرج يقول " سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) " وحرص أصحابه على القتال وقال : (( والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباًًً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة )) فقام عمير بن الحمام الأنصاري وبيده ثلاث تمرات يأكلهن فقال : يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم (( نعم )) قال : بخ ! بخ ! يا رسول الله ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء لئن حييت حتى أكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ، ثم ألقى التمرات وقاتل حتى قتل رضي الله عنه
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفا من تراب أو حصا فرمى بها القوم فأصابت أعينهم فما منهم واحد إلا ملأت عينه وشغلوا بالتراب في أعينهم أية من أيات الله عز وجل ، فهزم جمع المشركين وولوا الأدبار وأتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ، قتلوا سبعين رجلا وأسروا سبعين
أما القتلى فألقي منهم أربعة وعشرون رجلا من صناديدهم في قليب من قلبان بدر منهم أبوجهل وشيبة بن ربيعة وأخوه عتبه وابنه الوليد بن عتبه وغيرهم
فهذه غزوة بدر انتصرت فيها فئة قليلة على فئة كثيرة قال تعالى " فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ " انتصرت الفئة القليلة لأنها فائمة بدين الله ، تقاتل لإعلاء كلمته والدفاع عن دينه فنصرها الله عز وجل